كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَإِنْ صَحَّ ذِكْرُ الْمُحَارِبِ فِيهِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: إذَا قُتِلَ، حَتَّى يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْأَخْبَارِ الْأُخَرِ وَتَكُونُ فَائِدَتُهُ جَوَازَ قَتْلِهِ عَلَى وَجْهِ الصَّلْبِ.
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ: أَوْ يُنْفَى مِنْ الْأَرْضِ.
قِيلَ لَهُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأٌ قَدْ أُضْمِرَ فِيهِ: إنْ لَمْ يَقْتُلْ.
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يُقْتَلُ الْبَاغِي وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْخَبَرِ.
قِيلَ لَهُ ظَاهِرُ الْخَبَرِ يَنْفِي قَتْلَهُ، وَإِنَّمَا قَتَلْنَاهُ بِدَلَالَةِ الِاتِّفَاقِ وَبَقِيَ حُكْمُ الْخَبَرِ فِي نَفْيِ قَتْلِ الْمُحَارِبِ إلَّا أَنْ يَقْتُلَ عَلَى الْعُمُومِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ بِفِعْلٍ سَبَقَ مِنْهُ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهُ عَلَيْهِ، كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ وَالْمُرْتَدِّ وَالْقَاتِلِ، وَالْبَاغِي لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يُقَاتِلْ لَمْ يُقْتَلْ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِمَقَالَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ؟ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا لَا عَلَى التَّخْيِيرِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا وَلَا تَخْيِيرَ فِيهَا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفِيَهُ وَيَتْرُكَ قَطْعَ يَدِهِ وَرِجْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنْ الْقَتْلِ أَوْ الصَّلْبِ.
وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ الْقَائِلُونَ بِالتَّخْيِيرِ لَكَانَ التَّخَيُّرُ ثَابِتًا فِيمَا إذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا أَوْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْآيَةِ ضَمِيرًا وَهُوَ أَنْ يُقْتَلُوا إنْ قَتَلُوا، أَوْ يُصْلَبُوا إنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، أَوْ تُقَطَّعُ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا، أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ إنْ خَرَجُوا وَلَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى ظُفِرَ بِهِمْ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّخْيِيرِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي بَابِ وُجُوبِ قَتْلِهِ، وَالْمُحَارِبُونَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِخُرُوجِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ وَإِخَافَتِهِمْ السَّبِيلَ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا.
وَلَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ بِمُوجِبٍ لِلتَّخْيِيرِ مَعَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى ضَمِيرِ الْآيَةِ وَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ دُونَ مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلتَّخْيِيرِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا ضَمِيرٌ لَكَانَ الْخِيَارُ بَاقِيًا إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فِي الْعُدُولِ عَنْ قَتْلِهِمْ وَقَطْعِهِمْ إلَى نَفْيِهِمْ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ الْعُدُولُ عَنْ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ صَحَّ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنْ يُقْتَلُوا إنْ قَتَلُوا أَوْ يُصْلَبُوا إنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ أَوْ تُقَطَّعُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إنْ أَخَذُوا الْمَالَ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا وَجَبَ قَتْلُهُمْ إذَا قَتَلُوا وَقَطْعُهُمْ إذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى النَّفْيِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَلَى الِانْفِرَادِ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْقَتْلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَارِبًا وَأَخَذَ الْمَالَ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْقَطْعُ إذَا كَانَ سَارِقًا؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الْعُدُولُ إلَى النَّفْيِ وَتَرْكُ الْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ.
قِيلَ لَهُ قَتْلُ الْمُحَارِبِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَقَطْعُهُ حَدٌّ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْقَوَدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَفْوَ الْأَوْلِيَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ فِيهِ؟ فَثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ، وَوَجَبَ قَطْعُهُ لِأَخْذِهِ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلَ وَلَا يُقْطَعَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَتْلُ وَاجِبًا حَدًّا لَمَا جَازَ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى النَّفْيِ وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ، كَمَا أَنَّهُمْ إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْ الْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ إلَى النَّفْيِ؛ إذْ كَانَ وُجُوبُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحَارِبَ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ إلَّا إذَا قَتَلَ وَلَا الْقَطْعَ إلَّا إذَا أَخَذَ الْمَالَ.
وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا مُبْتَدَأً لِأَنَّ الْقَتْلَ إذَا وَجَبَ حَدًّا لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ كَالزَّانِي وَالسَّارِقِ؛ فَلَمَّا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ قَتْلِ الْمُحَارِبِ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ إلَى النَّفْيِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ، وَكَمَا لَوْ قَتَلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْفَى عَنْ قَتْلِهِ، فَلَوْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ بِنَفْسِ الْمُحَارَبَةِ لَمَا جَازَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إذَا قَتَلَ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسِ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} وَتَسْوِيَتُهُ بَيْنَ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ النَّفْسِ وَبَيْنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ قَتْلٌ أَوْ قَتْلُهُ فِي حَالِ إظْهَارِ الْفَسَادِ، فَيُقْتَلُ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ؛ وَنَحْنُ قَدْ نَقْتُلُ الْمُحَارِبَ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ صَارَ فِي يَدِ الْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا لَمْ يَقْتُلْ؟ فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ لَوْ كَانَ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْقَتْلُ لَمَا جَازَ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى النَّفْيِ، فَلَمَّا جَازَ عِنْدَ الْجَمِيعِ نَفْيُهُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ، فَصَحَّ بِمَا وَصَفْنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ بِإِيجَابِ تَرْتِيبِ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوُصُولَ إلَى الْقَتْلِ لَا يُسْتَحَقُّ بِأَخْذِ الْمَالِ وَلَا الْقَصْدُ لَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحَارِبِينَ إنَّمَا خَرَجُوا لِأَخْذِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ لِأَخْذِ الْمَالِ فِي الْأُصُولِ فَالْقَصْدُ لِأَخْذِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ بِهِ الْقَتْلُ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ، فَإِذَا خَرَجَ الْمُحَارِبُونَ وَقَتَلُوا قُتِلُوا حَدًّا لِأَجْلِ الْقَتْلِ.
وَلَيْسَ قَتْلُهُمْ هَذَا قَوَدًا لِأَنَّ الْقَتْلَ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْقَتْلُ فِي الْأُصُولِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ عَلَى جِهَةِ إظْهَارِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ تَأَكَّدَ حُكْمُهُ بِأَنْ أَوْجَبَ قَتْلَهُ حَدًّا عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ فِيهِ عَفْوُ الْأَوْلِيَاءِ؛ فَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ لِمَا فِي الْآيَةِ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ.
وَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ يُسْتَحَقُّ بِأَخْذِ الْمَالِ فِي الْأُصُولِ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ تُقْطَعُ يَدُهُ فَإِنْ عَادَ فَسَرَقَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ؟ إلَّا أَنَّهُ غُلِّظَتْ عُقُوبَتُهُ حِينَ كَانَ أَخْذُهُ لِلْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ فَالْإِمَامُ فِيهِ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيهِ، فَكَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِ قَطْعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالصَّلْبَ وَالْقَتْلَ، وَكَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ عِنْدَهُ حَدًّا وَاحِدًا؛ وَكَذَلِكَ لَمَّا اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ بِالْقَتْلِ وَأَخَذَ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ صَارَ جَمِيعُ ذَلِكَ حَدًّا وَاحِدًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَتْلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ كَالْقَطْعِ وَأَنَّ عَفْوَ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِ لَا يَجُوزُ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا حَدٌّ وَاحِدٌ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَهُمَا جَمِيعًا وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ، فَيَدْخُلُ فِيهِ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَى الْإِمَامِ التَّرْتِيبُ فِي التَّبْدِئَةِ بِبَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ فَلَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْقَطْعِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلَّا قَتَلْته وَأَسْقَطْت الْقَطْعَ كَمَنْ سَرَقَ وَقَتَلَ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُقْطَعُ قِيلَ لَهُ: لَمَّا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَدٌّ وَاحِدٌ مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْقَتْلُ وَأَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ، وَأَمَّا السَّرِقَةُ وَالْقَتْلُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ غَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ اُسْتُحِقَّ الْآخَرُ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِدَرْءِ الْحُدُودِ مَا اسْتَطَعْنَا؛ فَلِذَلِكَ بَدَأْنَا بِالْقَتْلِ لِنَدْرَأَ أَحَدَ الْحَدَّيْنِ، وَلَيْسَ فِي مَسْأَلَتِنَا دَرْءُ أَحَدِ الْحَدَّيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ حَدٌّ وَاحِدٌ، فَلَمْ يَلْزَمْنَا إسْقَاطُ بَعْضِهِ وَإِيجَابُ بَعْضٍ.
وَهُوَ مُخَيَّرٌ أَيْضًا بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُ صَلْبًا وَبَيْنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْقَتْلِ دُونَ الصَّلْبِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا}.
وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الصَّلْبَ الْمَذْكُورَ فِي آيَةِ الْمُحَارِبِ هُوَ الصَّلْبُ بَعْدَ الْقَتْلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُصْلَبُ ثُمَّ يُقْتَلُ يُبْعَجُ بَطْنُهُ بِرُمْحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيُقْتَلُ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَصَلْبُهُ بَعْدَ الْقَتْلِ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ عُقُوبَةٌ وَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ فِي الْمَيِّتِ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصْلَبَ بَعْدَ الْقَتْلِ رَدْعًا لِغَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الصَّلْبَ إذَا كَانَ مَوْضُوعُهُ لِلتَّعْذِيبِ وَالْعُقُوبَةِ لَمْ يَجُزْ إيقَاعُهُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَوْضُوعِ فِي الشَّرِيعَةِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْقَتْلَ أَوْ الصَّلْبَ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ جَمْعُهُمَا عَلَيْهِ؟ قِيلَ لَهُ: أَرَادَ قَتْلًا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الصَّلْبِ إذَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، وَأَرَادَ قَتْلًا عَلَى وَجْهِ الصَّلْبِ إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، فَغُلِّظَتْ الْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ فِي صِفَةِ الْقَتْلِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ.
وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: «يُتْرَكُ الْمَصْلُوبُ مِنْ الْمُحَارِبِينَ عَلَى الْخَشَبَةِ يَوْمًا» وَقَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: «ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ».
وَاخْتُلِفَ فِي النَّفْيِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: «هُوَ حَبْسُهُ حَيْثُ يَرَى الْإِمَامُ» وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ؛ وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ نَفْيَهُ طَلَبُهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: «يُنْفَى إلَى بَلَدٍ آخَرَ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فِيهِ الْعُقُوبَةَ فَيُحْبَسُ هُنَاكَ».
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: «هُوَ أَنْ يَطْلُبَ الْإِمَامُ الْحَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُ يُنْفَى عَنْ كُلِّ بَلَدٍ يَدْخُلُهُ؛ فَهُوَ إنَّمَا يَنْفِيهِ عَنْ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَالْإِقَامَةُ فِيهِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ غَيْرُ مَنْفِيٍّ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي غَيْرِهِ، فَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ وَلَا مَعْنَى أَيْضًا لِحَبْسِهِ فِي بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ؛ إذْ الْحَبْسُ يَسْتَوِي فِي الْبَلَدِ الَّذِي أَصَابَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، فَالصَّحِيحُ إذًا حَبْسُهُ فِي بَلَدِهِ.
وَأَيْضًا فَلَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ إلَّا بِأَنْ يُقْتَلَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالنَّفْيِ الْقَتْلَ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْقَتْلَ مَعَ النَّفْيِ، أَوْ يَكُونُ مُرَادُهُ نَفْيَهُ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا مُحَارِبًا مِنْ غَيْرِ حَبْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذَكَرَهُ زَجْرُهُ عَنْ إخَافَةِ السَّبِيلِ وَكَفُّ أَذَاهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ إذَا صَارَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَكَانَ هُنَاكَ مُخَلَّى كَانَتْ مَعَرَّتُهُ قَائِمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ هُنَاكَ كَتَصَرُّفِهِ فِي غَيْرِهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَهُ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ الْمُسْلِمِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِهِ لِلرِّدَّةِ وَمَصِيرِهِ إلَى أَنْ يَكُونَ حَرْبِيًّا.
فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى النَّفْيِ هُوَ نَفْيُهُ عَنْ سَائِرِ الْأَرْضِ إلَّا مَوْضِعَ حَبْسِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ فِيهِ الْعَبَثُ وَالْفَسَادُ.
وقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ لَا تَكُونُ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ، لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَعِيدِهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ.
قَوْله تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} اسْتِثْنَاءٌ لِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ مِنْ قَبْلِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ وَإِخْرَاجٌ لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا هُوَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا انْتَظَمَتْهُ الْجُمْلَةُ مِنْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ} فَأَخْرَجَ آلَ لُوطٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمُهْلَكِينَ، وَأَخْرَجَ الْمَرْأَةَ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَجِّينَ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيسَ} فَكَانَ إبْلِيسُ خَارِجًا مِنْ جُمْلَةِ السَّاجِدِينَ.
فَكَذَلِكَ لَمَّا اسْتَثْنَاهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ إذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ نَفَى إيجَابَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} عُقِلَ بِذَلك سُقُوطُ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَنْهُمْ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ قَالَ فِي السَّرِقَةِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ تَوْبَةُ السَّارِقِ مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ عَنْهُ.
قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ، وَفِي آيَةِ الْمُحَارِبِينَ اسْتِثْنَاءٌ يُوجِبُ إخْرَاجَهُمْ مِنْ الْجُمْلَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ}.
يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُبْتَدَأً مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ عَنْ تَضْمِينِهِ بِغَيْرِهِ، وَكُلُّ كَلَامٍ اكْتَفَى بِنَفْسِهِ لَمْ نَجْعَلْهُ مُضَمَّنًا بِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وقَوْله تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} مُفْتَقِرٌ فِي صِحَّتِهِ إلَى مَا قَبْلَهُ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ مُضَمَّنًا بِهِ.
وَمَتَى سَقَطَ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَجَبَتْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحَاتِ وَضَمَانِ الْأَمْوَالِ.
وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ سَقَطَ ضَمَانُ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالْجِرَاحَاتِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِهَذَا الْفِعْلِ يُسْقِطُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ، كَالسَّارِقِ إذَا سَرَقَ وَقُطِعَ لَمْ يَضْمَنْ السَّرِقَةَ، وَكَالزَّانِي إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَهْرُ، وَكَالْقَاتِلِ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ الْمَالِ؛ كَذَلِكَ الْمُحَارِبُونَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ سَقَطَتْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمُحَارِبِ وَجَبَ ضَمَانُ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، كَالسَّارِقِ إذَا دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ، وَكَالزَّانِي إذَا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ لَزِمَهُ الْمَهْرُ.